إدارة المشاريع في القرآن

كتبه ماجد عابدين

التاريخ: 28/04/2013

أستعرض هنا مقدمة الكتاب وجزءً منه


لو تأملنا المعيار المتبع من خلال معهد إدارة المشاريع (Project Management Institute PM I) كواقع لأي مشروع، فإن هذا المعيار إذا طُبِّق بحذافيره يكون ناجحاً إلى حدٍ كبير، وقد بالغ المعهد فصوّر لنا أنه لا يمكن أن ينجح أي مشروع إلا إذا سرنا على هذا المعيار الذي وضعه.

ولكن عندما نؤمن بأن القرآن والسنة هما وحي إلهي ونُسَلِّم بذلك يقيناً، فهل نجزم بعد ذلك بشكل مؤكد أن المنهجية التي وضعها معهد إدارة المشاريع PMI أو غيره هي صحيحة بشكل تام؟ أم أن فيها ما فيها من نقص؟ وإذا أمعنّا النظر في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في بناء دولة الإسلام، لوجدنا أنه أقام مشروعاً ناجح جداً إلى أبعد الحدود، فهل كان يستخدم منهجية معهد إدارة المشاريع؟؟؟؟ وهل هذه المنهجية هي من ابتكارهم أم أنها موجودة عندنا منذ فجر الإسلام؟ وهل الأنبياء ساروا على درب هذه المنهجية؟ وما هو النقص الذي يعتري منهجية الPMI؟ والفوارق بينها وبين ما قام بها الأنبياء وعظماء المسلمون.

لذا، طرأت في بالي فكرة أن نلقي الضوء على بعض القصص في القرآن والسنة الصحيحة والتاريخ الإسلامي على المنهجية التي درسناها، ووجدت أن الأنبياء والرسل وعظماء المسلمين كانوا يطبقون منهجية إدارة المشاريع التي رسمها لنا الPMI بل وأفضل.

كنت قد استمعت إلى درسٍ ألقاه فضيلة الشيخ محمد بن صالح المنجد حفظه الله بعنوان حُسن الإدارة، فاستفدت مما قدّم الشيخ كثيراً فيما يتعلق في هذا الموضوع، فارتأيت أن أقدِّم هذه الفوائد التي استخلصتها منه حفظه الله وأضيفها إلى ما تعلمته -من كتب إدارة المشاريع والكتب المتعلقة في هذا المجال- وأضفي عليها نكهة فنية، لربما تتيح للمتخصصين في هذا المجال أن يتأملوا في القصص التي أخبرنا الله تعالى بها في القرآن العظيم أو التاريخ الإسلامي، لذلك قال الله تعالى ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))[1] فمن العِبَر التي أودُّ أن أستخلصها من قصصهم هي العِبَر التي يستفيد منها مدراء المشاريع، وكما نسميها في مصطلح الدروس المستفادة Lessons Learned.

وأودّ أن أنوِّه على أمر مهم لمن يقول إنه لا يمكننا أن نقارن بين الأنبياء الموحى لهم والمؤيدين من الله وبين مدراء المشاريع، وأن هذا على سبيل الإنقاص من شأن الأنبياء والرسل بأن تتم عملية المقارنة بينهم وبين مدراء المشاريع البشر العاديين، فأقول لمن قال بذلك: إن الله قد أخبرنا بقصصهم كما في الآية السابقة وذلك من أجل اتخاذهم قدوة في أمور الدين والدنيا، وليس ما أكتب هو من باب المقارنة -أبداً- وإنما من باب الاستفادة من سيرتهم.

وإن قال قائل: أن علم إدارة المشاريع هي نظريات ولا نُسَلِّم بصحتها يقينا، أما القرآن فهو حقائق وآيات لفظية وكونية، فأقول نعم هو كذلك وليس ما أحاول إثباته هو صحة هذه النظريات أو حتى أسلوب إدارتهم، وإنما هي إثبات أن ما قد توصلوا إليه من هذه النظريات -الصحيح منها- وهذا الأسلوب في الإدارة إنما هو موجود عندنا وليس هي ابتكار جديد عندهم، فالقرآن والسنة الصحيحة والسيرة النبوية تعلمنا منها ما ينفعنا في الدين والدنيا.

إن هذا الكتاب مخصص لأصحاب الاختصاص في مجال إدارة المشاريع، فهو يحتوي على مصطلحات إنجليزية أو مصطلحات فنية هم يعرفونها، فربما يجد غير المتخصص صعوبة في فهم وإدراك وتحليل بعض الفقرات والجمل أو ربما المواضيع، ولذلك آثرت أن أكتب شرحاً مبسطاً جداً عن العناوين العريضة التي تمَكِّن غير المتخصص من فهم - ولو جزءً يسيراً - من الكتاب.

وأود أن أبدأ معكم بقصص القرآن لما فيها من الفوائد الجمّة التي يمكن ترجمتها إلى معايير ومنهجيات في علم إدارة المشاريع، وأنا على يقين بأنني مهما حاولت استخراج ما فيها من فوائد فلن آتي إلاّ بالقليل القليل، وسيأتي غيري ويضيف الكثير، وما هدفي إلاّ من باب المدارسة والذكرى بقصص العظماء التي نستقي منها عظات تفيدنا في نهضة أمتنا، سائلاً المولى عز وجل أن يكون هذا كله خالصاً له وحده، وأن يعفوا عن أي زلة أو خطأ أُورِده فيما أكتب، فإن أصبت فهو مَنٌّ وفضل من الله وإن أخطأت فمن الشيطان ونفسي.



كتبه

ماجد عابدين


18 جمادى الآخرة 1434

28/04/2013

[1]يوسف: 111

ذو القرنين


لن أخوض في مسألة اختلاف علماء المسلمين على نبوة ذي القرنين أم أنه ملك صالح، ولكن سأبدأ مباشرة بطرح ما ورد في القرآن، واستخلاص العِبَر المستفادة منه كمدير للمشاريع، قال تعالى ((وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا))[1].

عند تعيين المؤسسات لمدير المشروع فإنها تختاره على أساس الخبرة والكفاءة، ولا ننسى أمراً مهماً جداً أيضاً في اختيار مدير المشاريع الناجح وهو ما يسمى الكاريزما (Charisma)، وهي من صفات القائد الناجح التي تمكنه من إدارة المشروع بأفضل الطرق، بالإضافة إلى ما اكتسبه من خبرة وشهادات علمية وعملية، فلو مثلاً كنت مديراً لشركة وأردت أن تقوم بتعيين مدير مشروع عندك في الشركة، وقد تَقدّم لهذه الوظيفة اثنان عندهم نفس الخبرات العملية ونفس الشهادات العلمية، وهؤلاء المتقدمين أيضاً حاصلين على شهادة إدارة المشاريع الاحترافية PMP، فإنك تقف محتاراً بين الاختيار بينهما، إلاّ أنه هناك عامل مهم يحثك على اختيار أحدهما وهو الكاريزما، وهي الجاذبية أو ذلك السحر الموجود داخلياً في صفة القائد الذي سيقوم بمهامه على أكمل وجه ويحقق الأهداف المطلوبة، ويقود فريق العمل كقائد وليس كمدير (والفرق كبير).


وكما نعرف كمدراء للمشاريع أنه عند اختيار مدير المشروع يتم تحديد مواصفات ومهام هذا المدير، وكذلك كان الحال عندما أخبرنا الله عن ذي القرنين فقال في أول بدءٍ لقصته ((إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا))[2]، والتمكين هنا كلمة أشمل وأعمّ من كلمة قائد أو مدير، فقد أنعم الله عليه بسلطان وملك وفتح وعمران وقيادة وإدارة، والتمكين تعني أنه استحقها بجدارة بعد ابتلاء من الله قد أصابه، فقد سُئل الشافعي رحمه الله (أيٌّهما أفضل، أيُبْتَلى أم يُمَكَّن؟ قال: لا يُمَكَّن حتى يُبتلى)[3]، وهذه العبارة العظيمة من قول الشافعي هي استقراء منه رحمه الله في قصة يوسف وموسى عليهم السلام وغيرهم من الأنبياء والصالحين والصابرين وقصة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو لم يُمَكّن في المدينة إلا بعد ابتلائه في مكة، وقد قال الله تعالى في قوم موسى عليه السلام ((وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ))[4]، فالله مكَّنهم في الأرض بعد أن صبروا على ابتلاء وأذية فرعون، وقال سبحانه وتعالى أيضاً في يوسف عليه السلام ((وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))[5]، فهو لم يُمَكّن إلا بعد أن ابتلاه الله في أمور كثيرة نذكرها في سرد استقرائنا لقصته كمدير للمشاريع.


إن ما أورده معهد إدارة المشاريع PMI في كتاب الدليل المعرفي لإدارة المشاريع (PMBOK) نرى أن الأبعاد الثلاثة المتعلقة بالكفاءات المطلوبة لمواصفات مدير المشروع هي التالي[6]:

  1. المعرفة: تشير إلى ما يعرفه المدير عن إدارة المشروعات.

  2. الأداء: تشير إلى ما يستطيع مدير المشروع أن يقوم بفعله أو تنفيذه أثناء تطبيق ما لديه من معرفة بإدارة المشروعات.

  3. الكفاءة الشخصية: تشير إلى الطريقة التي يتصرف بها مدير المشروع عند تنفيذ المشروع أو أحد الأنشطة المتعلقة به، وتشتمل الكفاءة الشخصية على الاتجاهات والخصائص الشخصية الرئيسة والقيادة-القدرة على توجيه فريق المشروع أثناء تحقيق أهداف المشروع وموازنة قيود المشروع.


وعندما نرجع إلى الآية التي بدأ بها سبحانه وتعالى في قصة ذو القرنين في قوله ((إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ)) فإنها تشير إلى الأداء، وفي قوله ((وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وغيرهم يعني علمًا[7]، فتشير إذاً إلى المعرفة والكفاءة الشخصية، ومن هنا فقد اكتمل النصاب التي أوردها المعهد لمواصفات مدير المشروع.


وفي قول الله عز وجل ((فَأَتْبَعَ سَبَبًا))[8] تشير هذه الآية إلى العمل بتلك الأسباب التي مكَّنَه الله منها وليس الاكتفاء بما يعرفه، وهذه من صفات مدير المشروع الناجح، أنه لا يكتفي بما تعلمه من الكتب والقراءات العلمية؛ وإنما يتبع ويطبق وينفذ ما تعلمه على أكمل وجه، والفاء في قوله ((فَأَتْبَعَ سَبَبًا)) فصيحة. أي: فأراد أن يزيد في تدعيم ملكه، فسلك طريقا لكي يوصله إلى المكان الذي تغرب فيه الشمس[9]، أي أنه سلك السبل إلى أن وصل إلى المكان الذي سيقيم فيه المشروع الذي سنتحدث عنه في باقي القصة.


في قول الله ((حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗقُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا))[10]، هنا بدأ وصف الوضع الحالي للمشروع، ((وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)) فبدأ يصف ذو القرنين ما رأى بعينه في وقت غروب الشمس وليس هو الحقيقة الفعلية، ((وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا)) وهنا استعراض ما يسمى في علم إدارة المشاريع بأصحاب المصلحة Stakeholders الرئيسيين، لو تأملنا جيداً كمدراء للمشاريع نجد أنه إلى الآن تم تحديد مدير المشروع وهو ذو القرنين وتم تحديد المكان وهو عين على ساحل البحر وتم تحديد الزمان وهو الغروب، وما زلنا إلى الآن نحاول إنشاء وثيقة المشروع Project Charter التي ابتدأت تظهر معالمها الرئيسة.


وقوله ((قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)) يذكرنا فيما قرأناه وتعلمناه في كتب إدارة المشاريع بأنواع الصلاحيات والنفوذ التي يستخدمها مدير المشروع، وهي كالتالي[11]:

  1. المنهجية الرسمية (الشرعية التقليدية).

  2. المكافئات.

  3. العقوبات (المنهجية الإكراهية).

  4. المنهجية القائمة على الخبرة.

  5. منهجية العِظة والقدوة.


في الآية نلاحظ أنه قد خُيِّر ذو القرنين بين خيار المكافئة وخيار العقوبة، ولو رجعنا أيضاً إلى النظريات التي يستخدمها مدير المشروع في مراقبة فريقه لقادنا إلى نظرية X ونظرية Y، فنظرية X تقول أن فريق العمل يجب مراقبته طيلة الوقت وفي حال عدم مراقبتك له بشكل متواصل ومستمر فإن فريق العمل سيفتعل المشاكل، وتفترض هذه النظرية أن فريق العمل كسول وسيء ويجب معاقبته ومراقبته واتخاذ الإجراءات الصارمة في حقه، أما نظرية Y فعلى العكس تماماً، فهي ترى أن فريق العمل يستحق الاحترام والتقدير، ولا يجب مراقبته والتشديد عليه، وتفترض في فريق العمل الكفاءة وبذل الجهد دون الحاجة لمراقبته، ومن هنا يصعب تطبيق إحدى النظريتين على كامل فريق العمل، فربما يقع ظلماً على من لا يستحق العقوبة والمراقبة الشديدة، وأيضاً إذا تُرك الفريق بأكمله دون مراقبة فربما أيضاً يقع الظلم على المؤسسة نفسها أو على المشروع، فتُعطى الثقة الكاملة لمن لا يستحقها.


فكان إجابة ذو القرنين هي الإجابة النموذجية لأي مدير مشروع أو قائد دون أن يقع الظلم على أحد ((قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا))[12]، وهنا استخدم صلاحية العقوبة لمن يستحقها فقط، واستخدم صلاحية المكافئات لمن يستحقها فقط في قوله ((وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا))[13]، وهذا يعطينا درساً بأنه من الظلم تطبيق نظرية X على جميع الموظفين أو نظرية Y على الجميع، وهذا يدل على سلامة تفكير ذو القرنين ورجحان عقله، ونلاحظ أيضاً مما سبق أنه بدأ بعملية التصفية لفريق العمل وأصحاب المصلحة، فاختار أفضلهم للاستمرار معه، ((فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى)) وهو ما يعرف بأسلوب منح المكافئاتAward بالإحسان إليه، ((وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)) وهي نقل المعرفة Knowledge Transfer بمعنى سنعلمه نحن في الدنيا ما تيسر لنا تعليمه ما يقرّبه إلى الله ويلين له من القول[14].


ثم يقول الله تعالى عنه ((ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا))[15]أي لما وصل إلى مغرب الشمس كَرَّ راجعا، قاصدا مطلعها، متبعا للأسباب، التي أعطاه الله[16]، وهذا المفهوم تجده في مصطلح التخطيط الموجي المتغير Rolling Wave Planning وهو نموذج من التطوير المستمر أو المتقدم Progressive Elaboration وهي عمليات تتابعية لإعادة تعريف التقييمات ونطاق المشروع[17]، ومازال ذو القرنين يتفحص ويسلك سبل إدارة المشروع الذي سيعمل عليه، فيقول الله تعالى ((حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا))[18].


ننتقل الآن إلى بداية المشروع في قصته عندما وصل في مسيره عند الجبلين ووجد وراءهما هؤلاء القوم ((حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا))[19]، هنا وصف أصحاب المصلحة وفريق العمل بوضعهم الحالي كما نسميها في إدارة المشاريع تحليل أصحاب المصلحة الرئيسيين Stakeholder Analysis، فهم قوم في غاية في البساطة والضعف ولا يكادون يعرفون لغةً غير لغتهم إلا بمشقة لعُجمَةِ ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم[20] وقدراتهم محدودة، وبدأ ينشئ وثيقة المشروع Project Charter بوضع وصف مختصر لوضعه الحالي، أن هناك جبلين يسدون بينهم وبين قوم يأجوج ومأجوج.


تكتمل الآن عناصر وثيقة المشروع عند إنشاء العقد من العميل، ولنتأمل الآيات التالية في قوله تعالى ((قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا))[21]، في هذه الآية وصف للمشروع ووصف لنطاق المشروعScope of Work وهو بناء السَّد، وأيضاً لا يفوتنا التنويه على وجود عنصر الميزانية المالية التقديرية التي عرضوها عليه ذلك في قولهم ((فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا))، وأيضاً تحليل أوّلي للمخاطر في المشروع في وصفهم لفساد يأجوج ومأجوج وتحليل مبدئي للفرص المكتسبة وهي حبس هؤلاء القوم الفاسدين وهي ما تسمى تحليل نقاط الضعف والقوة SWOT Analysis، وتسجيل أصحاب المصلحة وهم قوم يأجوج ومأجوج - وإِنْ كان تأثيرهم سلباً-، ومما نلاحظه أيضاً أنهم أعطوه سبب المشروع ولم يكتفوا بطلب البناء دون إيضاح السبب، فكان بإمكانهم أن يقولوا يا ذا القرنين أنعطيك المال وتبني لنا السد، ولكنهم أرادوا أن يعطوا المعلومات الكافية لذي القرنين حتى ينجز مشروعه بالجودة التي تناسب السبب من المشروع، فنتخيل مثلاً أنهم طلبوا منه البناء دون أن يعطوه سبب البناء، لكان من الممكن أن يبنيه من الخشب أو من الحجارة فقط، ويكون أيضاً سداً بناءً على طلبهم، ولكن عندما أخبروه السبب من وراء البناء إذاً لابد حينها من بناء ما يحتاجه الهدف الأصلي من المشروع، وهو بناء سدٍ منيع، ومن الجدير بالذكر أن إخبارهم بحال يأجوج ومأجوج يعتبر إعطاء تصور واضح للبيئة المحيطة المشروع كما نسميها في علم إدارة المشاريع Enterprise Environmental factors، فهؤلاء القوم (أصحاب السد) في هذه المرحلة يعتبرون بمثابة المستشارون الخبراء Expert Judgment فهم من يزود بالمعلومات.


والآن جاء دور العنصر الغائب تماماً عما تعلمناه وما سنتعلمه من الغرب، وهو العنصر الروحي والتذكير بالله والتذكير بما عند الله من ثواب وعقاب، وهذا أهم عنصر نفتقده كمدراء للمشاريع، فتأمل ردّ ذو القرنين في قوله ((قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا))[22]، أول ما ابتدأ به أن نسب التمكين والقوة والشهادات العلمية والخبرة العملية والسلطة كله إلى ربه، وكان قنوعاً بما عنده من خير قد وهبه الله إياه، ورفض الميزانية الموجودة في وثيقة المشروع، ووضع بدل المبلغ المعروض له منهم في الدنيا، مبلغاً لا يُقَدّر بثمن دنوي وهي جنة الآخرة، فأظهر عِفّته عن المال لأنه يعلم أنهم قومٌ فقراء ومساكين وضعفاء، فكم نحتاج إلى هذا العامل الروحي الذي لن نتعلمه من معهد إدارة المشاريع ولا من غيره، أن نُلحِق الفضل كله لله، وهنا بدأ ذو القرنين بوضع خطة التنفيذ ووضع الشروط والافتراضاتAssumption الموجودة في تحديد النطاق Define Scopeوهي معاونتهم، رغم أنه يستطيع وحده مع جنوده القيام بذلك لأن الله أعطاه التمكين، إلاّ أنه يريد أن يحقق تطوير فريق العمل وبناءه Team Building باستخدام ما يسمى بتطوير المهارات الشخصية Interpersonal Skills من خلال التعاون ((فَأَعِينُونِي)) وتقويته وحَثِّه ((بِقُوَّةٍ))Encourage teamwork من خلال التدريب العملي Gain training وتحفيزهم Motivation واستخراج الطاقات الكامنة فيهم Improve team performance[23]، بعد ذلك نصل إلى الهدف ((أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ)) فريق العمل ((وَبَيْنَهُمْ)) ويعني يأجوج ومأجوج كأصحاب مصلحة أيضاً مؤثرين تأثيراً سلبياً ((رَدْمًا)) وهو الهدف، ولو لاحظنا أن كلمة ((فَأَعِينُونِي)) بالرغم من علمه بضعفهم المسبق تعني أنه أشعرهم بالثقة وهي مطلوبة من مدير المشاريع عند تطوير فريق العمل وبناء الثقة[24].


وهنا أيضاً فائدة مهمة نلاحظها بين البائع والمشتري، وهي أن البائع كان حريصاً على مصلحة المشتري بأن يُعَلِّمه وينقل خبراته Knowledge Transfer التي لديه، ولا يَكتفي ببناء السّد وحده كفريق عمل منفصل هو وجنوده فقط، وإنما طلب مشاركة المشتري لإنجاح المشروع، وهذا عامل مهم أيضاً في إنجاح المشاريع وهو تعاون كلا الطرفين.


وتبدأ مرحلة جمع المتطلبات Collect Requirements بالأدوات والتقنيات Tools &Technique من خلال تبادل للحديث تم بين ذو القرنين والقوم Facilitated Workshop فقال لهم ((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ))[25] يعني قطع الحديد[26]، القوم كانت عقولهم محدودة وقدراتهم محدودة ولغتهم صعبة، فكان لابد من استخدام كلمات محدودة بحيث يفهموا وتصل الفكرة بأسرع وقت فاستخدم ثلاث كلمات فقط وهي آتوني بقطع الحديد، فلا يحتاجون إلى اجتهادات واختلافات بالفهم، وهذا الشرح الموجود مع كل نشاط موجودة في قاموس تجزئة العمل WBS Dictionary.

تأتي الآن مرحلة التنفيذ ولا ننسى أيضاً الأولويات في ترتيب النشاطات Sequence Activities أولاً جلب قطع الحديد ((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)) ثم جعلها بعضاً فوق بعض وهنا ما تشير إليه كلمة ((زُبَرَ)) ثم تسوية ما بين الجبلين بحيث يصبح جبلاً واحداً ((حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)) ثم جلب الأدوات التي تشعل النار وإشعالها بالنفخ، أي على زبر الحديد بالأكيار , وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة , ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تُحَمّى[27] ((قَالَ انفُخُوا)) ثم جعل قطع الحديد ناراً ((حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا)) ثم إذابة النحاس وهو القِطر ((قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا))، ونلاحظ أن مدير المشروع قائم على مشروعه خطوة بخطوة أثناء عملية التنفيذ فكان يعطي الأوامر ولم يضع الخطة فقط وترك فريق العمل، فاستخدم صلاحياته بالمنهجية القائمة على الخبرة.


إن قضية الأولويات أو العمل الأهم (تقديم الأهم) -هذا هو المبدأ الشرعي-، تقديم الأهم في عالم الإدارة والتخطيط معروف، ولكننا أيضاً في عالم الشريعة والدين لا نفقد هذا بل هو موجود عندنا، حتى عند التعارض نعرف ماذا نقدِّم، ((عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك».[28]))[29].


وكلمة ((قَالَ)) أثناء عملية التنفيذ تدلنا على أن هناك عملية اتصال Communications بين أصحاب المصلحة Distribute Information.


عندما نتأمل قول الله تعالى ((فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا))[30] وهذا يدل على أن الجودة في العمل Quality كانت على أكمل وجه، وهنا تمت عملية فحص المشروع عملياً Inspection، فأخبرنا الله بصيغة الفعل الماضي أن يأجوج ومأجوج حاولوا صعود السد وحاولوا خرقه لكنهم لم يستطيعوا، السؤال هنا ما هي أفضل الطرق لفحص المنتج؟ أليس هي فحص العينات من خلال المستهلك نفسه أو ما تسمى Sample of population للمنتج الأصلي، وهي أدق طرق الفحص بالرغم من زيادة التكلفة.


والآن يأتي دور إنهاء المشروع Close Project وقبول التسليمات والنواتج التي تمت الموافقة عليها Accepted deliverables ولكن بطريقة القادة الصالحين ((قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا))[31]، نسب المشروع لله ولم يفتخر بما أنجزه، وهذا هو تواضع القائد بأن اعترف بنعم الله، وختمها بموعظة رائعة بأن ذكرهم بالآخرة، بالرغم من صلابة البناء ومتانته وبالرغم من نجاح المشروع في الدنيا، فهذا كله سينتهي يوماً ما فلا تركنوا له، فهو يذكرهم بأن هذا الإنجاز الضخم وهذا السّد المنيع أن يوم القيامة كل من عليها فان، موعظة في النهاية تربط الناس بيوم الدين، فهل معهد إدارة المشاريع PMI يذكرنا بذلك؟، إن ما يذكرنا به ذو القرنين يختلف عن الجانب الأخلاقي Code of Ethics التي يذكرنا به المعهد، فهذا الجانب الأخلاقي يمكن تجاوزه إذا تأكدت أنك غير مراقب أو لن يكتشفك أحد، أما الجانب الذي ذكرنا به ذو القرنين هو جانب يربطنا بالله وأن الله رقيب علينا.




يوسف عليه السلام

هذا النبي القائد المدير الراعي القوي الأمين وزير الاقتصاد وزير المالية وزير التخطيط…، سمِّهِ ما شئت فلن توفه حقه، ويكفيه أن يكون نبي.


أتكلم عن يوسف عليه السلام ومشروع الدولة في الحفاظ على الأمن الاقتصادي لمدة خمسة عشر سنة، وكيف أنه أدار أزمة كانت قائمة وستكون كارثية، لولا معونة الله له وإخباره من خلال الوحي بما سيحدث، وما أعطي من حكمة في حل مثل هذه الأزمات.


لو رجعنا إلى موضوع صفات القائد الناجح وقضية التمكين بعد الابتلاء، لوجدنا أن يوسف عليه السلام قد مَرّ بمراحل عصيبة في حياته، اكتسب منها خبرة عظيمة، فقد ابتلي بإبعاد إخوته له عن أبيه وبعد ذلك أصبح عبداً مملوكاً وبعدها ابتلي بفتنة النساء ومن ثم سُجن، فهذه الابتلاءات المتراكمة كانت سبيلاً له لأن يُمَكِّنه الله بعد ذلك، فأخذ منصب مدير مشروع ليس لأنه مقرّبٌ من الملك أو أن عنده الخبرة الفنية فقط أو كما نسميها في علم إدارة المشاريع بتأثير الهالة Halo Effect، بل إنه أيضاً قد تعلم في حياته ما يُمَكِّنه-بعد توفيق الله له-أن يدير شؤون تلك الأزمة المستعصية، فممّا يدل أيضاً على ذلك أنه قد مرَّ بتجربة سابقة في تأويل أحلام صاحبيه في السجن.


نبدأ بتوصيف كيف بدأ المشروع، وهو وجود حاجة معينة من قبل العميل يختار من خلالها إنشاء مشروع معين، وهي كما نسميها الحالة التجارية Business Case، وفي قصة الملك بدأت بأن أراه الله رؤيا فقال الله سبحانه ((وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ))[32]، فهنا الحاجة أتت عندما أراد الملك تأويل رؤياه العجيبة، وقد عرض هذه الحاجة لرأي الخبراء والمستشارين Expert Judgment وقد أعطاهم شرحاً وافياً بالمشكلة القائمة، واعتبر أنه قام بإنشاء طلب عروض أسعار Request for Proposal أو عطاء Tender، فتقدّم لهذا المشروع - وهو تفسير الرؤيا - أكثر من شركة، وكل الشركات قالوا أن هذا المشروع هذا غير واضح المعالم ولا يمثِّل شيئا، وأيضاً اعتذروا عن تنفيذ المشروع فقالوا ((قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖوَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ))[33]وهذا جزم منهم بما لا يعلمون، وتعذر منهم، [بما ليس بعذر] فجمعوا بين الجهل والجزم[34]، حتى عُرِض المشروع على يوسف عليه السلام فأخبرهم بأنه مشروع قائم وأعطاهم مدة التنفيذ وهي خمسة عشر عام، ووضع الخطة لتنفيذها.


فالآن في قصة الرؤيا بالنسبة للملك كانت معالم المشروع غير واضحة، وبعد أن طرحت على المقاول وتمت دراسة المشروع أصبحت أهداف المشروع واضحة، فتم وضع الخطة كاملة لتنفيذ المشروع قبل البدء، وهو ما نعتبره عقد السعر الثابت Fixed Price.


لقد عُرض عليه المشروع من قِبَل صاحبه لمّا جاءه فقال له ((يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ))[35]، وهذا من أدب العرض بأن وصفه بما فيه من صفات حميدة وهي الصدق لأنه قد عَلِمَ منه ذلك، ولأنه يدرك أنه الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يقوم بالمشروع، وهذا يذكرنا بما يسمى في إدارة المشاريع بالمصدر المتفرد Sole Source، ويشير هذا المصطلح أنه يوجد بائع أو مقاول واحد موجود في السوق، لأنه قد عرض المشروع على أكثر من مقاول ولكن لا يوجد أحد من المقاولين كُفْء لإنجازه إلا واحد، فعرض عليه التفاصيل فقال له ((أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ)) وإعادة العِبارات المحكية عن الملك بعينها إشارة إلى أنه بلّغ السؤال كما تَلَقّاه ، وذلك تمام أمانة الناقل [36]Code of Ethics، ((لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)) هنا تم تحديد أصحاب المصلحة Stakeholders.


وفي الآية ((قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ))[37] أثناء الاجتماع Kickoff Meetings الذي تم الآن في مرحلة التخطيط لإدارة المخاطر Plan Risk Management، يُوضِّح يوسف عليه السلام الخطة الزمنية للمشروع فأَوَّلَ البقرات السمان بالسنين، وتحديد نطاق المشروع Scope of Work والمخاطر الإيجابية ((فَمَا حَصَدتُّمْ)) والحلول البديلة وكيفية الاستجابة Risk response ((فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ)) والتكاليف والمصاريف ((إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ))، والمعلومات التي بنى عليها هذه الخطة هي بمثابة أصول عمليات المنظمة Organizational Process Assets وهنا إشارة جميلة لأن ينظر مدير المشروع أين يضع قدمه قبل أن يضعها.

الخطة الأولى كانت باستثمار السبع سنين بالزراعة، فهنا وضع خطة زمنية لزراعة السنبلات، (فعَبَّر يوسف، السبع البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر، بأنهن سبع سنين مخصبات، والسبع البقرات العجاف، والسبع السنبلات اليابسات، بأنهن سنين مجدبات، ولعل وجه ذلك -والله أعلم -أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه، وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع والحروث، وحسن منظرها، وكثرت غلالها، والجدب بالعكس من ذلك. وكانت البقر هي التي تحرث عليها الأرض، وتسقى عليها الحروث في الغالب، والسنبلات هي أعظم الأقوات وأفضلها، عبَّرها بذلك، لوجود المناسبة، فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والإشارة لما يفعلونه، ويستعدون به من التدبير في سني الخصب، إلى سني الجدب فقال: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي: متتابعات.)[38] ومتتابعات كما نسميها التخطيط الموجي المتغير Rolling Wave Planning وهو نموذج من التطوير المستمر أو المتقدم Progressive Elaboration وهي عمليات تتابعية لإعادة تعريف التقييمات ونطاق المشروع[39]،وقد أرشدهم إلى طريقة مثالية لحفظ المحصول لأطول فترة ممكنة وهي أن يتركوه في سُنبُلِه، ((إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ)) أي: دبِّروا أيضاً أكلكم في هذه السنين الخصبة، وليكن قليلاً، ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه.[40] وهذا كله يذكرنا بالصفة المثالية لمدير المشروع التي تنبغي أن يتداركها وهي استباقية الأحداث Proactive والتخطيط لها مسبقاً[41]، فهنا وضع للمخاطر التي سيواجهها الناس خطة الطوارئ Contingency Plan وكيفية الاستجابة لهذه المخاطر Plan Risk Responses[42]وفي قوله ((تَزْرَعُونَ)) (عبَّر عن الأمر بالمضارع مبالغة في التعبير عن استجابتهم لنصيحته، فكأنهم قد امتثلوا أمره ، وهو يخبر عن هذا الامتثال)[43]، وهنا أخبرهم يوسف عليه السلام متى وكيف سيتم التعامل مع هذا الخطر وهو ما نسميه Timing وهي من المخرجات في إدارة المخاطر.


ولا ننسى أن المخاطر قد تكون إيجابية مفيدة للمشروع وتسمى الفرص Opportunities وقد تكون سلبية تضر بالمشروع وتسمى Threats، والآية السابقة تحدثت عن كيفية الاستجابة للمخاطر الإيجابية، وتجد أن الاستراتيجيات المتبعة لاستثمارها متمثلة في أربع منهجيات أو استراتيجيات[44]:

  1. الاستغلال

  2. المشاركة

  3. التحسين

  4. القبول


فتأمل ما قاله يوسف عليه السلام تجد أنه قد استخدم الاستراتيجيات كلها ((قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا)) وهذا يعني أنه قد قبل بالفرص لأنه لم يتجنب ذلك، ((فَمَا حَصَدتُّمْ)) وهذا استغلال للفرصة، ((فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ)) وهنا استراتيجية التحسين، ((إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ)) وهنا المشاركة مع الجميع.


وقد اهتم أيضاً بالتخطيط للجودة Plan Quality في قوله ((فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ)) لأن أفضل وسيلة لحفظ السنابل أو أي نوع من أنواع الحبوب هي أن يُترك في القشرة الخارجية الأصلية، وهنا أود أن أنوه إلى إشارة لطيفة وهي أنه لم يرشدهم إلى حفظ السنابل في مكان صحي مثلاً أو معزولاً بطريقة تقنية معينة، وهذا يقودنا إلى إعجاز[45] علمي قامت عليه أبحاث ودراسات في جامعة محمد الأول في المغرب[46] للأستاذ الدكتور عبدالمجيد بلعابد.


وهنا المرحلة الثانية من المشروع ((ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ))[47]، ففي قوله ((مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ)) المقصود من بعد ذلك الرخاء أو من بعد تلك الفرص Opportunities يكون بعدها ((سَبْعٌ شِدَادٌ)) وتعني سنين صعبة (مخاطر) Threats وقد اتبع يوسف استراتيجية تسكين المخاطر Mitigate وذلك لمّا ذكر لهم ((إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ)) أي أنهم سيدخرون شيئاً من الحنطة وهو سبيل للطعام الذي قد دلّهم بداية كيف يحفظونه.


وأعطاهم بشرى لهم من بعد هذه الخطة لخمسة عشر عاماً أن السنة الأخيرة منها ستكون رخاءً مرة أخرى فقال لهم ((ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ))[48]، والمقصود في قوله ((مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ)) هنا من بعد السنين الشداد Threats سيكون عام فيه خير من الله.

ولو لاحظتم في الآيات السابقة أن يوسف عليه السلام قام بما يلي فيما يتعلق بالمخاطر:

  1. التخطيط لإدارة المخاطر Plan Risk Management

  2. تحديد المخاطر التي ستواجه الناس سواء سلبية أو إيجابية Identify Risks

  3. ترتيب وتصنيف المخاطر Risk Categories

  4. التحليل الكمي للمخاطر Quantitative Risk Analysis فقد حدد لهم الكميات التي ستعينهم والكميات التي ستهدر.

  5. تحصيل البيانات التي يعتمد عليها التحليل الكمي أو كما تسمى Data gathering

  6. تخطيط الاستجابة للمخاطر Plan Risk Response فأرشدهم كيف ستتم عملية الاستجابة.

  7. أما مراقبة المخاطر سيأتي تفصيلها عندما طلب من الملك أن يجعله حارساً على خزائن الأرض.

ومما نلاحظه أيضاً في مرحلة إدارة المخاطر هو تصنيف المخاطر Risk Categorization، فأين يمكننا معرفة المخاطر التي تم تصنيفها من الآيات؟ كما نوهت سابقاً أن المخاطر هي أحداث سلبية أو إيجابية فعند تصنيف هذه المخاطر Risk Categorization فإننا نستخدم مصفوفة تأثير المخاطر Risk Probability and Impact Matrix وفيها نضع المخاطر بحسب الأولويات وخطورتها سلباً أو إيجاباً، وهنا الأسلوب القرآني كان دقيقاً في هذا عندما فرق سبحانه وتعالى بين التعبير في كلمة سنين وكلمة عام، فكلمة سنين تستخدم في التعبير عن السنوات التي فيها شدة وبأس وصعوبة وكلمة عام تعبر عن أعوام رخاء، فلو صنفنا المخاطر التي تحدث عنها سيدنا يوسف عليه السلام في المصفوفة لوضعنا سنوات الشدة في الأولويات باللون الأحمر وعام الرخاء الأخير في الخانات الخضراء كما نسميها Watch List فأرجو مراجعة الآيات لتتضح الصورة.

فبالتالي هو قد استخدم -باحترافية تامة- جميع عناصر المجال المعرفي Knowledge Area المتعلق بالمجازفات.

ومن الملاحظات المهمة أيضاً أن هذا الحل العظيم وهذا التخطيط المُحكم قد أرشدهم له يوسف عليه السلام وهو في شِدّة يَمُرُّ بها من عدة وجوه منها:

  1. أنه في السجن.

  2. أنه أسير.

  3. الرسول الذي كان معه في السجن قد نسيه عن ذكره أمام الملك، فلمّا جاءه لم يُأَنِّبْه.

  4. أنه متهم ظُلماً.

  5. أنه ظُلِم من إخوته بأن ابعدوه عن أبيه.


وهذا يحثُّنا ويحفزنا على أنه مهما كان عندك مشاكل داخلية أو أُسَرِيّة أو شخصية أو عملية، فهذا لن يوقفنا عن الإبداع وتقديم أفضل ما لدينا، ولا نيأس مما نحن عليه من ابتلاءات، وألّا نلوم أحد من المحيط الذي حولنا ولا المجتمع مهما أساء لنا، فهذه هي صفات القائد الناجح ومدير المشاريع الناجح، لأننا على يقين أنه إن أخلصنا النية لله تعالى في عملنا، وقدّمنا الأفضل دائماً- بالرغم من الظروف المحيطة - فإن الله سيعيننا على اجتياز أي محنة أو صعوبة، وهذا أيضاً قد أشار له كتاب إدارة المشاريع في أن يقوم مدير المشروع بالتركيز على الجوانب الأكثر تأثيراً والأكثر أهمية في مصطلح تصميم التجارب Design of Experiments[49] وهذا ما حصل تماماً مع سيدنا يوسف عليه السلام كما سيأتي.


وننتقل الآن إلى تنصيبه من الملك مديراً على هذا المشروع الضخم في قوله تعالى ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ))[50]، وكلمة مكين أنه ذو منزلة ومكانة، ولنسأل سؤالاً للتأمل، من خلال الآيات هل الملك أعطاه هذه المنزلة والمكانة بناءً على براءته فقط؟ الجواب لا، وإنما مكّنه بعد أن كلّمه ((فَلَمَّا كَلَّمَهُ)) وأن تنصيبه بمنزلة كبيرة عند الملك هو بناءً على حديث تم بينهما، استخلص به الملك علم وخبرة وصدق وأمانة يوسف عليه السلام (أي خاطبه الملك وعرفه ورأى فضله وبراعته وعلم ما هو عليه من خلق وكمال)[51]، (وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولي الأمر من الخصال ، لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة؛ إذ بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه ، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير؛ والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة، إذ بالحكمة يوثر الأفعال الصالحة ويترك الشهوات الباطلة، وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها. وهذا التنويه بشأنه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأن يقترح عليه ما يرجو من خير، فلذلك أجابه بقوله: {اجعلني على خزائن الأرض})[52]، وهذا أيضاً إشارة أنه لم يتم تعيينه باعتماد على ما نسميه في علم إدارة المشاريع بتأثير الهالة Halo Effect كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.


فطلب من الملك أن يتولى إدارة هذا المشروع بالكامل وذلك للمصلحة العامة وليس طلباً للمنصب فقال له ((قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ))[53]، فكلمة ((اجْعَلْنِي عَلَىٰ)) تدل على المراقبة والتحكم Monitoring & Controlling، وكلمة ((حَفِيظٌ)) تدل على تَوَلِّيه إدارة التكاليف Cost Management وإدارة الوقت Time Management... (حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات)[54]، وكلمة ((عَلِيمٌ)) هي الخبرة العملية والعلمية في إدارة المشروع.


ونعد الآن إلى ما قد قدّمنا من قبل وهو إلى قضية التمكين بعد البلاء فقال الله عز وجل ((وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))[1]، فكل ما سبق من الابتلاءات كانت سبباً لتمكين الله ليوسف، وأيضاً كما قد أشرنا في قصة ذو القرنين أن إغلاق المشاريع هي بفضل الله ورحمة الله، وكذلك كان هذا التذكير في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، فكل التمكين والسلطة والقيادة والإدارة والخبرات التي حصلت عليها والنجاح في إتمام المشروع هو فضل ورحمة من الله، ولا يُنسب هذا إلا إليه، ومثل هذه الإشارات هي المفقودة فيما نتعلمه من العلوم الصِّرفة.


[1]الكهف: 83

[2]الكهف: 84

[3]الفوائد، لابن القيم الجزء الأول صفحة 208

[4]الأعراف: 137

[5] يوسف: 56

[6] PMBOK 5th الصفحة: 16

[7] تفسير ابن كثير

[8] الكهف: 85

[9] تفسير الوسيط للطنطاوي

[10]الكهف: 86

[11]Rita PMP Exam Prep صفحة: 326

[12]الكهف: 87

[13]الكهف: 88

[14]تفسير الطبري

[15]الكهف: 89

[16]تفسير السعدي

[17]Rita PMP Exam Prep صفحة: 64

[18]الكهف: 90

[19]الكهف: 93

[20]تفسير السعدي

[21]الكهف: 94

[22]الكهف: 95

[23]Rita PMP Exam Prep صفحة: 322

[24]PMBOK 5th الصفحة: 517

[25]الكهف: 96

[26]تفسير السعدي

[27]تفسير القرطبي

[28]رواه البخاري ومسلم

[29]محاضرة (حُسن الإدارة) للشيخ المنجد

[30]الكهف: 97

[31]الكهف: 98

[32]يوسف: 43

[33]يوسف: 44

[34]تفسير السعدي

[35]يوسف: 46

[36]تفسير ابن عاشور

[37]يوسف: 47

[38]تفسير السعدي

[39]Rita PMP Exam Prep صفحة: 64

[40]تفسير السعدي

[41]PMBOK 5th الصفحة: 310

[42]Rita PMP Exam Prep صفحة: 395

[43]تفسير الوسيط

[44]PMBOK 5th الصفحة: 344

[45]والأفضل تسميتها آيات كما سماها الله، لأن الآيات تنقسم إلى آيات كونية وآيات لفظية، وهذه من الآيات اللفظية والكونية.

[46]عنوان البحث (فذروه في سنبله) للأستاذ الدكتور عبدالمجيد بلعابد

[47]يوسف: 48

[48]يوسف: 49

[49]PMBOK 5th الصفحة: 238

[50]يوسف: 54

[51]تفسير ابن كثير

[52]تفسير ابن عاشور

[53]يوسف: 55

[54]تفسير السعدي

[55]يوسف: 56